[center]في ليلة قَمراءَ..جَلَستْ..
تَوشحتْ بَراءتَها .. حَضَنَتْ دَفتَرها ..شدتْ على خاصِرةِ القلم ..فأصغى السمع خلسة.. قََمرا .. في سمائِها ليس بعيد...
جلستْ تعقفُ الرُكبتين ...فتاة.. على الحافة بين غُصن زَيتون .. وشُعاع لُجين..
اخذَ الزَمنُ من أنفاس عُمرها ..أربعة عشر نفسا يسيرا رطبا عَطِرا كأنفاس صُبح ..
ثم شَهق بَعدَها ستة عشر شَهقة على عَجل .. !!
ها أنا ذا ..بعد تلك السنوات ... أجُسُ نَبضَ الزَمن من بَعيد.. وأمدُ حَنيني إلى الخَلف ..بِذاكرة حَيَّة..مشتاقة..
أراها.. من بين لجج العَتمة الموغِلة .. تَجلس في رُكنِها الهادئ...
أكادُ استَشعِر قَشعريرة مَستْها اثر همسةَِ مساء بارده.. ضَمتْ جَسدها الصّغيرَ .. النّحيلَ ..
الذي كثيرا ما كان خلقُ الله يظنونهُ جَسدَ صَبي لكثرة شقاوةٍ فيه وحركة..و لمزاج نَزق يَحتجُ ويَرفُضْ.. ويَضجُ..بتعنتِ طفولة ..!
ثَمةَ أزهار تُطبِقُ أوراقَها بعد احتراقِ آخر شعاع غُروب.. ومن ثمَ تَسترخي على كتف اللّيل بأناة وتودد..
لكنها .. صغيرتي..
أَطبقتْ أوراقَها على قَلمْ .. ووثَبتْ بِروحِها على أدراج الليل تَناجي القَمر .. وتُعلنُ ثَورتَها عليه .. أيضا ..بأناة و بتودد..!
اسمعها...
ولا تسمعني...اذ أناجيها ..و ازفُر أنفاسي شوقا للحظتها تلك وتتأوه أضلُعي حَسرة .. على بُعد لا عود بَعده!
اشتَمُ رائحةَ التُرابِ حَولها .. ورائحةَ الليل الرائِق ..ورائحةَ دماءٍ تَسيل .. اثر بلوغ.. القَلمِ مَحِلّه.. !
صورةٌ .. تَنبضُ في مُخَيلتي .. تعشش في خلايا الذاكرة تبرز بوضوح..
لازال ضوءُ الكَهرباء الشحيحِ حَولها كَهالة متراخية.. بيضاءَ هَزيلة .. في فَجِ دُجى واسِع.. يَحتَلُ القَمَرَ جَبينَه..
باختِيال وغُرور ..
هكذا تبدى لها ..فأغاظها.. !
وأَمُدُ يَدي امسَحُ على قَلبِها الغَضِ ...
الذي لمّا يَزلْ في روضِ النُورِ يَحْفل ..
يَتَوجَسُ خيفَةً من عُهرِ الظَلامَ...
ظَلامٌ... ليسَ لليلِ ذَنبُ فيه..!
لا أخفيكم ...
أحبُها .. أحبُ صُراخَ الحَرفِ حين ولادتَه الأولى في وعيها.. أُحب صَخَبه المُزعِج الغَير مهذب أحيانا.. وثَورتَه...لسبب او من دونه... حتى على جَمالِ القمر ..
من هُنا ارقبُها ...
ارقِبُ لَمَحاتِ التَمرد المُبَعثَرة مع خُصلاتِ شَعرِها الأسود القصير.. بعشوائية...
على كل ما يُطلِقُ على نَفسِه اسم حَدْ..
"لا حد" " لا شيء في الحياة يَمتَلك الحَقّ في تحديد أيِّ شيء.. فيما حُدود الطبيعة والفطرة..كما شاء خالقها "...
هذا ما هجست به هواجسها البِكر .. وهذا ما بَلغَ حَد الكِبَر فيما بعد .. وصار فِكرة أَنيقة تَجِلسُ على كرسي وتَضعُ رِجل على رِجل ..
فيما يَحُدُها مِن كُلِ الأبعاد كل شيء... !
لو تَدري صغيرتي تلك ... كم أتَعبني هذا التَمرد..المُبَهَّرِ بِعنْدِ الطُفولة..
ها انا..
أَجيئُ كَطَيف... اجلس جِوارها .. من على بُعدِ ستة عشر تَعب اغتالني ..
لاستريح هنيهة على صَدرِ حُروفِها البَرئاتْ ..
اقترب منها بحنو أرهفُ السَمع..أُدَقِقْ.. أرَ ارتِعاشَةَ القَلم .. استَشِعرُ شَوق السطور .. اسمع لهاث قلبها المتعطش للحرف ..
أقراء على دفترها ذاك الصَغير رخيصَ الثَمنْ ..
خربشات طُفوله تَتوق للكِبر بِتهور..
احتَضَنتُها ...
واستَحلفتُ القَمَر أن يُصادقَها أن يُراعي تَهَورَها..
أن يرعى حَرفَها الذي سَمّى باسمِ نُوره ..حين يَمم وجهةَ السّطر ..
وما خيبَ القَمرُ ظَني ..
فزرعَ في مَفاصِل حَرفِها رِقتَة أرهقتها.. وفي كلمتِها سُطوعا أعماها.. وفي عين قَلمها عطفا مُتعب ..
عذرا إذا ثَرثَرتُ عنها .. كثرا ..
لكنه لسانُ الكِبار الذي كما تعرفون لا ينفك .. يثرثر أكثر مما يصمت..
سأترككم مع لسان صَغيرة ..
تَخاصَمت ذات طفولة... مع القَمر...
اثر استدارة كاملةِ الهالةِ لِجَماله ...
فَلقَنتهُ دَرسا في التَواضُع ..
لكنه غفر لها سريعا تماديها...
ثم تصادقا بِصمت... الى هذا الحين..
قالت ..
ضاقتْ ذَرعا بي روحي ففاضت ..
ما بين سَجايا الدُجى .. وتَخلتْ عني نَفسي وتَمايَلتْ حَول أنغام للآلئه المُتَناثِرَة..
رَقَدتْ بين ضُلوعِ الليّل ... ومع نَسيم الهُدوء تَسامرتْ...
وطَافَ حَولي بريقُ الدُجى ..
وكأن كلُ حورِ ذلك الكونَ فيّ حدقَتْ ..
وحَضنتُ الليلَ في عَينيَ ...وسَرتْ أمواجهُ في عروقي ونَبضتْ ...
وإذ بالبدر يَحومُ حولي ...وبهِ ..مُنهَمِرَة غَزيرَة سيماتُ غَضبٍ لاح فيه ومع صفا بَياضِه تَشاجَرتْ...
قال : أ أنكر ..
قُلت: ومن أنكر
قال: خيالكِ ذا الشُجونْ
قُلت : ما أنكَركَ ..لكن.. غفى مع الدُجى والنُجوم
قال : أتُشغِلكِ عني وأنا الجَمالُ الذي في هامتْ عيونُ العاشِقين ..وبيَّ أضاء قِنديلُ المُحبينْ..
قُلت : وبما تَرضى نَفْسُكَ ويرضى اختِيالُكَ المَجنون
قال: تُعانِقيني بِحروف جَثا فيها الجَمالُ رهين..تُسامريني بالحان ..سِحر الكَونِ فيها ورَوعةٌ تُسابقُ السِنين..تُتَوجيني بقَصائِد كَلماتُها فَيروزَ العُيونْ...
قُلت: ويحَك .. أتراكَ مليكا أم ملاكا تُريدُ العِبادَ حَولكَ يَنحَنونْ..
أم تريدُ البَحرَ جَمالا يغدو بين كَفيك وامتِدادُ الكَونِ لحنا حَنونْ..
أم تُريدُ ثرى الأرضِ جَوهرا يُزملك الفَرقدين..
فـأمضي يا بدرُ ..فإنما ..
سوف تمضي برغمك وتُقهر ...
فهذي بِنتُ الضُحى قد أرختْ خُصلات النورِ وأيقَظَتْ عيونُ الدنيا والجُفون..
وتَوردَت خدودُ الأرضِ وزهّر المرجُ الحزين..
وابتسم الأقحوان .. وماجتْ روائِح الياسمين..
وضَمَ الأَرضَ سِحرا .. تَغاريدُ عصفور الغصون ..
وحَيّت نَسماتُ الرّبيعِ .. صَفحاتُ البَحرِ ...وصافَح المَوجُ الشاطِئين...
ورَثَتكَ الحَياةُ للماضي .. وصِرتَ في الذكرى دَفينْ..
فاعلم يا بَدرُ إن عُدتَنا قَمرا ...
أنما ..
أنت عبد من بين العابدين...[/center]